تطبيع العلاقات التركية السورية- صراع النفوذ الإيراني ومستقبل سوريا

المؤلف: رمضان بورصة10.10.2025
تطبيع العلاقات التركية السورية- صراع النفوذ الإيراني ومستقبل سوريا

شهدت العلاقات التركية السورية تحولات عميقة ومحورية في السنوات القليلة الماضية، حيث انطلقت مسيرة ترميم العلاقات بعد فترة طويلة من الجفاء والقطيعة. هذا التقارب لم يمر مرور الكرام، بل أثار حفيظة وقلق إيران التي تخشى من أن يؤدي هذا التطبيع إلى تقويض نفوذها المتأصل في سوريا، والذي عملت على بنائه وتعزيزه على مدار سنوات الحرب الطويلة، ما قد يؤدي إلى سيناريو مشابه لما حدث في البوسنة والهرسك عام 1995 عقب اتفاق دايتون، حين خسرت طهران مكاسب ثمينة اكتسبتها بصعوبة بالغة.

منذ اندلاع الأزمة السورية المؤلمة في عام 2011، مرت العلاقات بين تركيا وسوريا بعدة منعطفات حاسمة ومراحل متباينة. المرحلة الأولى تميزت بـ "مسار الحل الدبلوماسي والحوار البنّاء" بين عامي 2011 و2012، حيث بذلت أنقرة جهودًا مضنية لإيجاد حلول سلمية للأزمة السورية المتفاقمة. ومع تزايد حدة الصراع وتعقيداته، دخلت العلاقات بين البلدين في "مرحلة الانفصال والمواجهة المباشرة" بين عامي 2012 و2017، حيث قدمت تركيا دعمًا قويًا لقوى المعارضة المسلحة في مواجهة الحكومة السورية. ثم تلت ذلك المرحلة الثالثة، التي امتدت من عام 2017 إلى عام 2023، والتي عُرفت بـ "مرحلة التفاهم والتخفيف من حدة التوتر"، حيث سعت أنقرة ودمشق إلى إعادة بناء قنوات الاتصال بينهما في محاولة لتهدئة الأوضاع المتوترة.

في عام 2023، دخلت العلاقات بين أنقرة ودمشق طورًا جديدًا ومهمًا، وهو "مسار التطبيع الكامل"، الذي شهد أول لقاء رسمي رفيع المستوى بين وزيري الدفاع ورؤساء الاستخبارات من كلا البلدين في العاصمة الروسية موسكو في شهر ديسمبر/كانون الأول 2022، وذلك تحت رعاية روسية. وفي شهر مايو/أيار 2023، عُقد اجتماع رباعي آخر في موسكو ضم وزراء خارجية تركيا وسوريا وروسيا وإيران، إلا أن هذه الجهود الدبلوماسية القيّمة فقدت بعضًا من زخمها وأهميتها بعد اندلاع عملية طوفان الأقصى وتوسع نطاق الصراع في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023.

ومع ذلك، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعادة تنشيط هذه الجهود الدبلوماسية في شهر يوليو/تموز 2024، وذلك بعد عودته من قمة الناتو، معلنًا عن استعداد بلاده التام لإعادة إرساء السلام والاستقرار مع سوريا، ومؤكدًا على أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان سيتعاون بشكل وثيق مع نظيرَيه السوري والروسي لوضع خريطة طريق واضحة ومفصلة لعملية التطبيع.

إيران التي مدت نفوذها في سوريا خلال سنوات الحرب، تخشى أن يتكرر معها ما حدث في البوسنة بعد اتفاق دايتون عام 1995، حيث فقدت كل مكاسبها

لم يتأخر رد الرئيس السوري بشار الأسد، إذ أعرب عن استعداده التام للانخراط في أي مبادرة بنّاءة تهدف إلى تطوير العلاقات مع تركيا وتعزيزها، مشيرًا إلى أن أي لقاء مباشر مع الرئيس التركي لن يتم دون التوصل إلى تفاهمات وشروط مسبقة. وتستمر حاليًا عملية التطبيع، التي أُعيد إحياؤها في أعقاب التصريحات الأخيرة للرئيس أردوغان، وسط وساطة روسية حثيثة وتطلعات إقليمية متزايدة لتحقيق الاستقرار والسلام.

التطبيع من وجهة نظر تركيا

تنظر تركيا إلى تطبيع العلاقات مع سوريا على أنه يخدم مصالحها الوطنية والإقليمية على مختلف الأصعدة والمستويات. وفي مقدمة هذه الأسباب، تبرز المخاوف العميقة المتعلقة بمستقبل سوريا المترنح. فبعد مرور أكثر من 13 عامًا على اندلاع الأزمة، تغيرت الديناميكيات الداخلية السورية بشكل كبير وملحوظ، حيث لا تزال الحكومة السورية تحتفظ بسيطرتها على العاصمة دمشق، في حين لا تزال قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، وهيئة تحرير الشام، والجيش السوري الحر، قوى مؤثرة وفاعلة في أجزاء مختلفة من البلاد. وإلى جانب هؤلاء، تنشط جماعات مسلحة مدعومة من إيران في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة.

وعلى الصعيد الاجتماعي، فقد شهدت التركيبة السكانية لسوريا تحولات جذرية، مع ولادة ملايين الأطفال السوريين في بلدان اللجوء المختلفة، مثل: تركيا، ولبنان، والأردن، والدول الغربية. هؤلاء الأطفال أصبحوا جزءًا لا يتجزأ من ثقافات جديدة ومختلفة، مما يزيد من تعقيد الصورة المستقبلية لسوريا. أما السوريون الذين عاشوا في البلاد خلال سنوات الحرب الطويلة والمؤلمة، فقد مروا بتجارب قاسية وصادمة شكّلت رؤيتهم للحياة والمستقبل.

وفي ظل هذه التغيرات العميقة والمتسارعة، ترى تركيا أن سوريا لن تتمكن بسهولة من استعادة وحدتها السياسية والاجتماعية. لذلك، قد يُطرح نموذج الإدارة الإقليمية كحل سياسي واقعي في المستقبل، وهو ما يذكر بالنموذج اللبناني الذي طُبق بعد الحرب الأهلية، أو النموذج العراقي بعد الغزو الأميريكي. ومع ذلك، لم يكن هذا النموذج أبدًا وسيلة لتحقيق الاستقرار الدائم، بل أسهم في استمرار الصراعات والتدخلات الأجنبية. واليوم، يخشى الكثيرون من أن يكون هذا هو النموذج الذي قد يُفرض على سوريا في نهاية المطاف.

تولي تركيا، التي تربطها بسوريا أطول حدود برية، أهمية قصوى للحفاظ على أمن هذه الحدود وتأمينها. كما أن الأحداث الأخيرة في قطاع غزة، والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، أعادت تسليط الضوء على الطموحات الإقليمية لإسرائيل. ويرى الرئيس أردوغان أن المقاومة الفلسطينية تدافع ليس فقط عن غزة، بل عن أمن المنطقة بأسرها، بما في ذلك تركيا. لذلك، ترى أنقرة في تطبيع العلاقات مع سوريا وسيلة لتعزيز أمنها الإقليمي في مواجهة التهديدات المتزايدة والتحديات الأمنية.

ومن جانب آخر، يشكل الهيكل الذي تسعى قوات سوريا الديمقراطية إلى إنشائه في شرق سوريا، بدعم أميركي، تهديدًا كبيرًا للمصالح التركية. وقد شنّت تركيا بالفعل عدة عمليات عسكرية ضد وحدات حماية الشعب، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، وسيطرت على عدة مدن استراتيجية، أبرزها مدينة عفرين.

ترفض أنقرة بشدة وجود كيان كردي على حدودها الجنوبية، وترى أن تسليح الولايات المتحدة لهذه القوات يزيد من التهديد على أمنها القومي. هذا الوضع الحساس، الذي يشكل خطرًا مباشرًا على الحدود التركية، هو أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع تركيا إلى التعجيل بعملية التطبيع مع دمشق وتجاوز العقبات.

تركيا ترى أن تطبيع العلاقات مع سوريا وسيلة لتعزيز أمنها الإقليمي في مواجهة التهديدات المتزايدة، خصوصًا مع الطموحات الإقليمية لإسرائيل والمخاطر الناتجة عن المشروع الكردي في شرق سوريا

تعتبر تركيا أن جهود التطبيع مع سوريا جزء لا يتجزأ من سياستها العامة الرامية إلى تحقيق التطبيع الكامل مع دول المنطقة. ففي السنوات الأخيرة، قامت أنقرة بإصلاح علاقاتها المتوترة مع كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وتعد هذه الخطوات جزءًا من رؤية تركيا للتكيف مع التحولات العالمية وظهور قوى جديدة على الساحة الدولية.

ومنذ عام 2017، تبنت تركيا سياسة خارجية متوازنة تعتمد على بناء علاقات قوية مع كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين، وسعت إلى توسيع نطاق نفوذها في مناطق مختلفة من العالم، مثل الشرق الأوسط، وإفريقيا، وآسيا الوسطى. وهذا التوجه الجديد يمكن ملاحظته بوضوح في تحركات تركيا الأخيرة في دول مثل: السودان، والصومال، وليبيا، وأذربيجان، والنيجر.

التطبيع من منظور حكومة دمشق

من وجهة نظر دمشق، يمثل التطبيع مع تركيا ضرورة سياسية واقتصادية ملحة، فضلاً عن كونه مخرجًا من الأزمات المحلية والإقليمية المتفاقمة. فكما هو الحال في أنقرة، تخشى دمشق من مستقبل النظام السياسي الذي سيتشكل في سوريا بعد سنوات الحرب الطويلة. فالوجود الأميركي في منطقة شرق الفرات يثير قلق الحكومة السورية، خاصة مع المحاولات المستمرة لقوات سوريا الديمقراطية لتأسيس نموذج إداري مستقل خاص بها. بالإضافة إلى ذلك، يضاف إلى هذا المشهد المعقد الحضور الإيراني المتزايد والجماعات المسلحة المرتبطة بها.

على الرغم من أن إيران تؤكد أن وجودها في سوريا جاء بناءً على دعوة من الحكومة السورية، فإن نفوذها المتزايد بدأ يشكل مصدر إزعاج للرئيس بشار الأسد. ومنذ التدخل الروسي في الساحة السورية عام 2015، حاول الأسد موازنة هذا التأثير الإيراني، ونجح إلى حد ما في تحقيق ذلك. ومن هذا المنطلق، يمكن أن يساعد التطبيع مع تركيا على تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار حاجة الأسد لموازنة الأطراف الدولية المتداخلة في الشأن السوري.

وثمة جانب آخر يزعج الأسد، وهو النفوذ الثقافي المتزايد لإيران في سوريا. فبالإضافة إلى تواجد المليشيات والمستشارين العسكريين، قامت إيران بإنشاء العديد من المراكز الثقافية والحسينيات والمساجد، مما يعمق تأثيرها الاجتماعي والديني في البلاد. ولهذا السبب، يمكن أن يكون التطبيع مع تركيا جزءًا من إستراتيجية دمشق للحد من هذا التغلغل الإيراني وتأثيره المتنامي.

وإلى جانب ذلك، تسعى دمشق إلى استعادة اندماجها الإقليمي الكامل، خاصة بعد عودتها إلى جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وهي خطوات أعطتها شرعية جديدة في المنطقة. ويُعتبر التطبيع مع تركيا والدول الإقليمية الأخرى مفتاحًا لتخفيف الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بالبلاد، حيث تأمل دمشق أن يسهم هذا التطبيع في تحسين أوضاعها الاقتصادية المتردية عبر تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي.

وعلى الرغم من أن عملية التطبيع قد لا تسير بسرعة كبيرة، فإن الإرادة السياسية التي برزت تعدُّ خطوة مهمة لدفع العملية إلى الأمام وتجاوز العقبات. وفي هذا الإطار، تشير بعض المصادر المطلعة في أنقرة إلى إمكانية عقد لقاء مرتقب بين الرئيس أردوغان والرئيس الأسد في العاصمة الروسية موسكو في نهاية شهر سبتمبر/أيلول أو منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول 2024، وهو ما قد يشكل خطوة محورية في هذا السياق.

إيران ومتلازمة البوسنة

من جهة أخرى، تراقب إيران تطورات مسار التطبيع بين تركيا وسوريا عن كثب وباهتمام بالغ. فقد صرح المسؤولون الإيرانيون مرارًا بأنهم يدعمون هذا التطبيع، ولكن على الرغم من ذلك، توجد بعض التحفظات غير المعلنة. وشاركت إيران في الاجتماع الرباعي الذي عُقد في موسكو عام 2023، إلا أنها لم تشارك في الاجتماعات اللاحقة. وفي أنقرة، يعتقد بعض المحللين أن إيران تمارس ضغوطًا على دمشق لتبني موقفًا متشددًا، مفاده أنه ينبغي على تركيا سحب قواتها أولًا، قبل أن تبدأ أي عملية تطبيع حقيقية وملموسة.

وقد أعلن الرئيس أردوغان ووزير الخارجية هاكان فيدان في أكثر من مناسبة أنهما يتوقعان من إيران أن تلعب دورًا بناءً وإيجابيًا في هذه العملية المعقدة. كما عبّر السفير التركي في إيران، حِجابي قرلانجيش، عن رسالة مماثلة خلال مقابلة له مع وكالة أنباء "تسنيم" الإيرانية الشهر الماضي، مشيرًا إلى أهمية أن تتبنى طهران موقفًا إيجابيًا لدفع الأمور قدمًا وتذليل العقبات.

ومن منظور إيران، لا يبدو أن الحكومة في طهران متحمسة لتغيير الوضع الراهن في سوريا. فهي تشعر بأن أي تطبيع بين دمشق وأنقرة قد يقوض النفوذ الكبير الذي بنته طهران في سوريا على مدار 13 عامًا. وتدرك إيران جيدًا أن إعادة ترتيب النظام السياسي في سوريا قد تهدد مكاسبها الإستراتيجية، ولهذا تفضل استمرار الوضع الحالي الذي يمنحها مساحة أكبر للحركة والتحرك.

وللتاريخ دروس بليغة لا تغفلها طهران أبدًا. فقد كانت إيران حاضرة بقوة في البوسنة بين عامي 1992 و1995، حيث قدمت دعمًا كبيرًا للبوشناق ضد الصرب. ولكن بعد توقيع اتفاق دايتون، وجدت إيران نفسها مضطرة للخروج من المشهد، على الرغم من أنها كانت تخطط للبقاء من خلال المؤسسات الثقافية والمستشارين العسكريين.

لقد كانت التجربة البوسنية درسًا قاسيًا لإيران، وهي الآن تسعى جاهدة لتجنب تكرار هذا السيناريو في سوريا، حيث بنت نفوذًا واسعًا لا يقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل يشمل أيضًا الجوانب الثقافية والدينية والاقتصادية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة